
زياد السالمي/ اليمن

الخطاب الشعري في ديوان "بناء على ما تهدم" للشاعر صلاح الدكاك
صدر عن دار بيسان للنشر والتوزيع الطبعة الأولى العمل الشعري "بناء على ما تهدم" للشاعر اليمني الكبير صلاح الدكاك بتاريخ تشرين الأول(إكتوبر)2025م والذي يشكل حسبما يحوي في طياته من إشراقات للمتلقي أن ثمة قصيدة أخرى كموقف أو كعمود سفينة ممزق الجناح يلوح من عليه كشراع بدلا من السارية الكثير من البحارين وهم يواجهون تدافع الرياح.. هنا كان الشاعر صلاح الدكاك يرتق عالما تهدم ويبني عليه افتراضا يبعث وجودا أجمل شكلا وأكثر حيوية وأمثل انفعالا.. في مجموعته الشعرية (بناء على ما تهدم) وفي النسق الشعري أو شعرية النص نجد أن هذه التجربة لشاعر قدير متمكن مثله تعد إضافة للوعي الشعري والذاكرة الثقافية التي تعتمد على مقومات وتوجهات النص كشعرية تخضع أبعادها للفكرة.. بل وقبل أن نتطرق لتوجهات الخطاب الشعري في المجموعة الشعرية بناء على ما تهدم ينبغي التطرق إلى مفهوم الشعرية وموضوعها من ثم تحديد مفهوم الخطاب الشعري وأخيرا ذكر توجهات الخطاب الشعري وذلك على النحو الآتي:
أ- مفهوم الشعرية وموضوعها:
يعد مفهوم الشعرية كمفهوم أدبي يوازي ويظاهي النظرية الأسلوبية والسيميائية من المفاهيم الحديثة التي استجدت على الواقع الأدبي ويعد المفكر تزفيطان تودوروف أكثر من قدم فكرة ناضجة مكتملة حول هذا المفهوم مبينا أسسه ومبررات وجوده فها هو على أدق تعبير وبلغة مختصرة يرى بأن الشعرية الخصوصية الأدبية ليس من واقع لغوي وإنما خصوصية النص الشعري من حيث المعنى.
ويذهب تزفيطان تودوروف في تعريف الشعرية إلى القول بأن تأويل عمل أدبي أو غير أدبي لذاته وفي ذاته
دون التخلي عنه لحظة واحدة. ودون إسقاطه خارج ذاته لأمر يكاد يكون مستحيلا. فالعمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية بينما هي خصائص الخطاب النوعي للعمل الأدبي بمعنى أن موضوع الشعرية هو تناول وتحديد القوانين الخاصة بالعمل الأدبي من حيث المعنى فقط وليس العمل الأدبي برمته.
بعكس ما تناوله سابقه فاليري الذي رأى بأن مفهوم الشعرية ليس. مجرد محاكاة للواقع بل عالم قائم في ذاته وهو لا يمثل الواقع بل هو خلق عالم خاص به هو عالم التأثيرات المتبادلة والأصوات وأن الشعرية تكمن في ضرورة تتشابك مع الصوت والإيقاع ويعد نتاج عمل فكري واع ومنهجي، كما هو تجربة فكرية تتجاوز حدود المنطق المألوف.
ب- مفهوم الخطاب الشعري:
يذهب البرفسور محمد مفتاح في كتابه تحليل الخطاب الشعري إلى أن هناك تيارات لسانية متعددة لها موقف من دراسة الخطاب الشعري وكل منها مشروط بتجربة الباحث الثقافية والتاريخية والحضارية
وأن النظرية الكلية الجامعة بين اللسانيات الوضعبة والذاتية المستغلة لكل معطيات النص قربتنا خطوات من خصوصيات النص الأدبي والتي هي خصوصيات احتمالية تتحقق بحسب المقصدية الاجتماعية وأن إلى تلك الخصوصيات يضاف تشاكل الإيقاع ودورية المعنى وكثافته وخرق الواقع هي من قوانين الخطاب الشعري التي لا تتخلف،
وبهذا فإن مفهوم الخطاب الشعري يعني مجموعة من القوانين المتمثلة بخصائص النص التركيبية والمقصدية وغيرها من المفاهيم الأدبية الناتجة عن النص الأدبي.
ج- توجهات الخطاب الشعري في العمل الشعري بناء على ما تهدم:
حينما نقول العمل الشعري فنحن نقصد العمل الشعري بكامله وبكافة أدواته ومكوناته البنائية واللسانية والخطاب الشعري كرديف ومقابل يضيف للنقد اللساني والذي يخضع على أدق الاحتمالات للقصدية سواء قصدية الشاعر وقصدية اللغة والحالة الانفعالية وكذلك قصدية المتلقي .
وعودة إلى موضوعنا المتمثل بتوجهات الخطاب الشعري؛ ومن هذا المنطلق يمكن القول أن أغلب النصوص الشعرية التي تضمنها هذا العمل الإبداعي قد اشتملت من حيث مقومات النص وشعريته بعدة توجهات نلاحظ أن مجموعة بناء على ما تهدم قد تضمنت عدة توجهات نوجزها بالآتي:
أولا: عتبات النص في الخطاب الشعري لديوان"بناء على ما تهدم" تعد العتبات النصية من أساسيات كل نص فهي بطاقة العبور إلى الداخل من خلال محطات محددة ابتداء بالغلاف مرورا بالعنوان وصولا بمطلع كل قصيدة ومن خلال التأمل في ديوان بناء على ما تهدم نجد أن الشاعر جعل أول بوابة للعبور هي عنوان الديوان الذي يوحي إلى أن نصوص المجموعة تسير نحو إقامة وجود يوتوبي مناسب بعد انهدام الوافع المثالي،
كما نجد أن عناوين النصوص قد حاكت ذلك وكانت بوابات عبور إلى ما قصده الشاعر في ديوانه مثال ذلك (تعويذة- لاوعد يجمعنا- أقبية ونوافذ- بكى صاحبي- زنزانة شجن انفرادية- أحاول ملكاً- باسورد حرية- هوجو شافيز- ثورة العشق بلا مايستروا )إلى ذلك ما تضمنه مطلع كل قصيدة الذي كان بمثابة تلخيص واع لإرادة شاعرة حرة في إيجاد واقع افتراضي على أنقاض وتناثرات وأشتات المثالية الهيجلية وعلى سبيل المثال يقول الشاعر في قصيدة"بناء على ما تهدم"
بناء على أطلال ماض تهدما
وعطفا بلا عطف على ما تقدما
حزمت لبيروت الذي بعد لم يجئ
من العمر واستدبرت ما قد تصرما
وعلى هذا النسق الذي يسير بنا نحو اكتمال الخطاب الشعري في تصوير عنوان الديوان الشعري " بناء على ما تهدم"
ثانيا: استدراك الكلمة وإعادتها من شفاه الرضوخ إلى ألسنة الرفض والتمرد: تأتي هذه المجموعة الشعرية متماسكة البناء لتشير بوضوح نحو العنوان الموسوم بناء على ما تهدم، إذ نستشف من نصوصها محاولة الشاعر على فرض إرادة الكلمة كموقف في مواجهة الحياة مؤكدة ما رأه الشاعر في عنوانها كلحظة استدراك للكلمات التي هدمت مقومات المعنى الجمالي للكلمة فنجده في قصيدة تعويذة يستدرك بالتبرم والرفض للكلمات التي خالفت نسقها الهيجلي المثالي في الدفاع عن المطحونين وانصاعت لرياح السلطة، في التبرير أو التشهير إذ يقول الشاعر:
يا رب
أعوذ بحرفك
من حرف لا ينضحه القلب دما في أوردة المقهورين
ولا تخبزه الأضلاع رغيف خلاص
....
.... إلخ
وهنا نجد استعادة الشاعر جمالية المعنى كمقوم للبنية الشعرية وكذلك جمالية الصورة الشعرية في جعل من الضلوع تنور ينتج خبزا كما استعاد ذلك في جعل الحرف نضاح دم للمقهورين، حتى يقفوا بوجه القهر بدماء حية وهذا ما يعتمد على الموروث الأدبي ومن ذلك ما قاله جبران خليل جبران من يصبر على الضيم ولا يتمرد على الظلم يكون حليف الباطل على الحق وشريك السفاحين بقتل الأبرياء. أو كقول أحدهم رذيلة الأقوياء الظلم ورذيلة الضعفاء الخنوعــ
وبهذا يكون الشاعر قد بنى ما هدمه الحرف الخانع بالاستعاذة والتمرد على الانصياع والتبرير للظلم، من خلال اتخاذ الحرف مشعل للدماء في أوردة المقهورين وجعل الضلوع كتنور ينتج خبز الجائعين.
ثالثا: الاغتراب الفكري والتأسي بالحرف: يستمر الشاعر بكل تبرم وتمرد في بث لواعج الرفض أمام حياة المادة وطغيان أقطاعيها دون مراعاة لإنسانية الإنسان وحقه في الوجود والحياة الكريمة لتنداح في آفاق المشاعر آهة اغتراب من أعماق شاعر لم يجد سبيل سوى الشعر يشاطره اغترابه الشمولي فيقول في قصيدة لا وعد يجمعنا:
يا شعر يا وجعي الذي أحيا به
وأبثه منذ الصبا أوجاعي
......
ونفر من منفى إلى وطن ولا
وطن سوى منفى عميق القاع
نفشي الشجون بنا كوشم قنانة
بجبين عبد فر من إقطاعي
ويبلغ المعنى أوجه كهزيمة الكفاح الثوري وانهزام أرصفة الرافضين أمام إقطاعية الواقع ورضوخ الإنسان بانتفائه الوجودي كعدمية حين يتخلى عن مدافعيه فيقول:
قد تنصف الثمر النضير يد الردى
والزرع تذبله يد الزُرَّاعِ
إن الشاعر يقودنا في ذلك إلى عوالم الشعرية من حيث المعنى والهدف الجمالي ومقومات النص الشعري المتمثلة بالمفهوم والفكرة العميقة المثالية رغم انحسار اليوتوبيا أمام الرأسمالية والفردية.. كدعوة بناء تقوم على هدم الوعي الانهزامي أولا من ثم البناء المثالي المقابل.
رابعاَ: اغتراب الأنا الشاعرة أمام برجماتية المدينة: نجد تجسيد ذلك في قصيدة أقبية ونوافذ إذ يقول:
أصغي عميقا لي
أناديني
وبي صوبي أهيب
فيحول -في صمت المسافة- بيننا
صوت مريب
في رجعه وتر كئيب
كم إنني غيري
وكم أنا يا "أنا" عني غريب
....
..
كذلك تتجسد ملامح الاغتراب في الواقع المتهدم عندما يلوح الاغتراب رغم الأصحاب وحضورهم بل أن الصاحب في اغترابه ووحشته أمام صلف طقوس المدينة لا يمنح الآخر الذي يشاركه اغترابه في وطنه دفء الألفة بل يكثر من فجوة الاغتراب بشعوره الانهزامي ليستذكر مع صاحبه عدم محاولتهم الهروب من واقع المدينة الزائف والتمرد بإثبات وجودهم وتآلفهم.. هذا ما نجده في قصيدة "بكى صاحبي" إذ يقول شاعرنا:
... ونأى
مثل كل الرفاق الذين تنوء بقلبي تصاويرهم
وجعا وجعا
نحن أصفار عالمنا الرقمي ..
...
ليبنيه الشاعر بالحنين والتذكر ومواجهة النسيان ببعض الأحداث التي علقت في الذاكرة رغم أنها تحكي اغتراب الأنا في الذات والرفاق
خامساً: اليوتوبيا ومبدأ الأمل في شعرية بناءً على ما تهدم
على الرغم من الإعلان عن نهاية اليوتوبيات بنهاية عصر السرديات الكبرى، نلاحظ في أكثر من موضع في هذه المجموعة الشعرية ظهور اليوتوبيا وفقا لما أسسه الفيلسوف الإيطالي أغميان حين أوصى على «الشجاعة على اليأس»، وكذلك وفق ما اقترح فوكو بقوله «شجاعة الحقيقة»، وبينهما يكمن الأمل حسبما عبر عنه ماركس بقوله «إن ما أعيشه داخل مجتمعي من كوارث يمنحني القدرة على الأمل.» وصولا إلى مبدأ الأمل الذي رسخه الفيلسوف الألماني المعاصر إرنست بلوخ في كتابه (مبدأ الأمل) نستشف ذلك من طيات العمل الشعري بناء على ما تهدم إذ نجده يتنقل بين كل ثيمة وأخرى فها هو تجسيدا للشجاعه على اليأس يصرح الشاعر في قصيدة " زنزانة شجن انفرادي " بالقول:
تعز هل عن أوان الوصل أنباء
أم المواعيد تسويف وإرجاء
إني نفيت فناء في هواك فهل
رجعي إليك وللأقدار إغضاء
إن كان يسأل مثلي عن خطيئته
فأنت تفاحتي الكبرى وحواء
كما نجده تجسيدا لفكرة فوكو (شجاعة الحقيقة) يصدح بها في قصيدة"أجل نعشق الحرب " حين قال:
هي الحرب
تقويم أيامنا السرمدي
نؤرخ فيه المواليد والشهداء
وأول قبلة حب
تعنقد كرمتها في الخرائب ...
.....
ليس هذا فحسب بل يتراوح بين الفكرتين مجسدا ما قاله ماركس من «إن ما أعيشه داخل مجتمعي من كوارث يمنحني القدرة على الأمل.» في قصيدة" أحاول ملكا " إذ قال:
ليس إلاك بين المدائن تقتل عشاقها بالطموح
ترحلت عن عرش نهديك
كي أستعيذك من " مدن الملح " مهدا ولحدا
فطوح بي " خمر دمون" في مدن من سديم وريح
أحاول ملكا بعينيك..
...
بل لم يكتف الشاعر الدكاك عند الأمل بالمفهوم الماركسي بل جسد اليوتوبيا التي تطرق لها أرنست في كتابه (مبدأ الأمل) موضحا أن اليوتوببا تستطيع التغلب على نهاية اليوتوبيا من خلال اليوتوبيا الملموسة أي المثالية الواقعية التي تستطيع فرض وجودها أمام المد الإمبريالي هذا ما يلمسه المتلقي بأجلى تجليلاته موحيا له أن الشاعر قد جسده في قصيدة " بشائر يوسف" بقوله :
لي من يسوع الناصري صليبه
وأنا بحسبان الأسى يعقوبه
... إلى أن قال:
أحتاج كي يأتي غدي أملا وإن
سرق السنين الباقيات كذوبه
أخيرا نستطيع القول أن الشاعر في عمله الشعري استطاع وباقتدار أن يحاكي مفهوم اليوتوبيا بتدرجاتها بعد نهايتها حسبما وضحناه مسبقا وهو ما يعد إضافة للوعي الإنساني ونهج مقاوم للإمبريالية واللامبالاة الرأسمالية أمام أحلام وطموح الطبقة العاملة المقهورة وفي ذلك استشراف وتنبأ بالمستقبل يبلغ منتهاه بالأحلام المثالية النبيلة في استعادة الأخلاق ومكافحة ومواجهة الطفرة المادية وتغولها وأنانيتها المفرطة .

573 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع