
السيدة دالاوي: مرآة الوعي وشروخ الذات
رواية فرجينيا وولف تُعد عملا حداثيا يغوص في تشظيات النفس البشرية وتيار الوعي، حيث وزعت الكاتبة ملامح سيرتها وأزماتها الوجودية بين شخصيات الرواية.
وليد الأسطل/ الأندبيندت:تبدو "السيدة دالاوي" عملا فريدا في مسار الرواية الحديثة، لا لأنها تبتعد عن البناء التقليدي فحسب، وإنما لأنها تحوّل الرواية إلى جهاز حساس يلتقط ما هو خفي وعابر في النفس البشرية. فهي لا تعوّل على الحكاية أو العقدة أو تسلسل الأحداث، وتمنح الأولوية للوعي حين يتململ ويضيء وينطفئ. ولهذا تبدو لغتها مشغولة بظلال المعاني أكثر من الكلمات نفسها، وتغدو القراءة شبيهة بالإصغاء إلى موسيقى يهمس فيها الاختلاف بين النغمات أكثر مما يظهر.
في مركز هذا العالم تقف شخصية سبتيموس، الذي لا يظهر كعنصر سردي تقليدي، وإنما كصوت داخلي يجسد الجانب المعتم الذي حاولت فرجينيا وولف التعبير عنه من خلال مرضها النفسي. والإشارة العارضة إلى الشاعر كيتس، الذي مات شابا مثقلا بالرهافة والاكتئاب، تكشف هذا الرابط؛ فسبتيموس، مثل كيتس، كائن مفرط الشعور، يرى الجمال والعدم في لحظة واحدة، ويختبر الحياة كحقل من الإنذارات الخفية. وعندما نعلم أن وولف نفسها عانت اضطرابات عقلية وسمعت أصواتا وحاولت الانتحار بالقفز من النافذة، ندرك أن سبتيموس يمثل مرآة داخلية لشروخها.
على الجانب الآخر تبرز كلاريسا، امرأة تعيش في الضوء لا لأنها مطمئنة، وإنما لأنها تقاوم الانهيار. تجمع الزهور لحفلتها بوعيٍ يثقل كاهلها، وتشعر بثقل الزمن وهشاشة اللحظة. وعندما يصلها خبر انتحار سبتيموس، يهتز في داخلها شيء يشبه الاحترام أو الغيرة: فقد أقدم على فعل لم تستطع هي أو غيرها الإقدام عليه، إذ رفض الاستسلام لسطح الحياة اللامع. ويتراجع هذا الشعور سريعا، فكلاريسا، رغم ميلها للتأمل، مخلوق يتشبث بالحياة ويتعلق ببريقها حتى لو كانت تعرف مقدار العتمة التي يخفيها هذا البريق.
يقوم البناء الروائي في "السيدة دالاوي" على يوم واحد، غير أنّ هذا اليوم يتشعّب إلى أزمنة متعددة عبر الذاكرة. لا تعمل دقات "بيغ بان" Big Ben كإشارة عبور من ساعة إلى أخرى فقط، وإنما كإيقاع يفصل تيار الوعي ويفتح الباب لعودة الماضي. فالشخصيات، مهما تحركت في شوارع لندن، تظل متورطة في ذكريات أقدم، وتعود إليها كما يعود المرء إلى بيت يحتفظ بملامحه الأولى. ليست بورتون -المدينة المتخيلة التي تتكرر الإشارة إليها- سوى ظل لحي بلومزبري الذي عاشت فيه وولف وشقيقتها، وتشكّل فيه عالمها الحقيقي عبر نقاشات حرة ومجتمع صغير ضم كتّابا ومفكرين وفنانين وجدوا أنفسهم في مواجهة أعراف مدينة كاملة.
سالي، صديقة الماضي، ليست شخصية ثانوية، وإنما وجه آخر لشخصية وولف. روحها المتمردة، نفورها من القيود، شغفها بالكتب والزهور، وبحثها عن معنى خارج الإملاءات الاجتماعية - جميعها ملامح توزعتها وولف بين كلاريسا وسبتيموس. هكذا يتشكّل عالم الرواية كأنه لوحة متعددة الوجوه، يعكس كل وجه جزءا من ذات واحدة لم تستطع أن تسكن في كيان واحد دون أن يتشقق.
ولا يمكن تجاهل أثر جويس وبروست على وولف: يذكّر اليوم الواحد ب"يوليسيس"، ويذكّر تيار الوعي بكلاهما. ومع ذلك تخلق وولف أسلوبها الخاص الأكثر هدوءا وموسيقية والأقل صخبا. ليست لحظات التجلي التي تصفها، انقلابات كبرى، وإنما ومضات خاطفة تنكشف فيها طبقة من الحقيقة قبل أن تختفي من جديد. وتبدو هذه الومضات، التي أسمتها "Illumination"، كأنها اللحظات التي يعيش فيها الإنسان ذاته بصفاء لا يطول.
لا تبحث هذه الرواية عن خاتمة، ولا تقدم حلولا. هي رواية عن كيفية ارتطام الحياة بالنفس، وعن الذكريات التي لا تزول، وعن الفناء الذي يتربص بكل شيء. لا تتحرك شخصياتها من أجل حدث، وإنما من أجل أن تنصت إلى فراغها الداخلي. وكلٌّ منها يعود إلى الماضي لأنه المكان الوحيد الذي يشعر فيه بأن حياته كانت تمتلك بداية واضحة، بينما الحاضر مجرد لحظة تتردد فيها دقات الساعة ويمر كل شيء من حوله دون أن يكاد يلمسه.
وبهذا تصبح "السيدة دالاوي" رواية عن الذات حين تتشظى إلى وجوه متعددة: وجه يختار الحياة مهما كلّف الأمر، ووجه ينهار ويمضي نحو الموت، ووجه ثالث يتمرد ويبحث عن حرية بلا شروط. وربما كانت وولف تعرف -في لحظة وعي خاطفة- أن الإنسان لا يستطيع أن يحتفظ بكل هذه الوجوه في داخله دون أن يتفتت، وأن الرواية نفسها محاولة لترتيب هذا التفتت في صورة يمكن النظر إليها دون خوف.

1277 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع