*المثالية بين الواقع والطموح* رؤية فكرية سياسية

 جابر رسول الجابري


*المثالية بين الواقع والطموح*رؤية فكرية سياسية

*المقدمة :

المثالية :
عبارة عن رؤية خيالية وهمية جميلة تُخفي ورائها عجز وهروب العقل البشري من مواجهة الحقيقة ،

وسواء كانت تلك الحقيقة منهج للحياة الإجتماعية أو منهج لنظام حكم او لشريعة دينية أو ثقافية ،

يمكن تشبيه المثالية بحلم اليقضة إلا إنها ذات تفاصيل هلامية غير واضحة المعالم و متغيرة لدى الخيال البشري ،

وأهم الأسباب التي دعت ان تكون صورتها مشوشة وغير واضحة هي اختلاف مستويات التفكير والإدراك العقلي عند البشر وكذلك اختلاف الظروف والزمن ،

فلهذا نجد ان رؤية شخص ما في زمن ما لفكرة المثالية قد تكن بالضد او تختلف عن رؤيته في غير ظروف وغير زمن أو حتى تختلف عن رؤية شخص آخر ،

ان العقول البشرية عاجزة تماما على توحيد رؤيتها للمثالية بسبب كون المثالية ليس واقع ملموس بل خيال فلسفي افتراضي يلجأ اليه العقل البشري عندما يهجر الحقيقة باحثا عن بديل .

الواقع :
هي وصف تعبيري ناتج عن ردة فعل يائسة نتيجة عجز العقل البشري من التحكم بالحقيقة الكائنة معه او فشله بإمكانية تغيير سلوكها خدمة له فأدى ذلك الى الإحباط واليأس من إمكانية التأقلم معها ولجأ عندها للبحث عن بديل مجهول مثالي يتأقلم معه ،

ومثال على ذلك فشل العقل البشري بمحاولاته لادراك سبب الخلق و الطبيعة و الهدف من الحياة والسبب في وجود الموت ،

تلك حقائق وصفها العقل البشري بالواقع ، الإنسان دائما يتذمر من الواقع بالرغم من ان الواقع جزء منه لكنه يصفه بالواقع المرير او الواقع المُزري وليس السبب من الواقع بل نفور العقل من الواقع وعزوف العقل عن التأقلم مع الواقع ،

الطموح : هو الامل و أحلام العقل البشري ، وأبرز توصيف للطموح هو لهفة العقل البشري للخلود أو حلمه بنقل وجود البشرية من الأرض إلى كوكب آخر او مثلا امل الوصول للمثالية في كل مفصل من مفاصل الحياة البشرية .
**الموضوع :

منذ الأزل ظهرت عند العقل البشري متلازمة فكرة الخلود فسلبت منه لبه و امتطت صهوة طموحه وقادت تفكيره إلى فعل المستحيل وصولا لتحقيق حلم الخلود ،ولكن للأسف كان دائما هذا الحلم يصطدم بصخرة الموت التي تعترض مساره و في كل محاولة يتحطم عندها حلم الخلود والطموح معاً ليصبحا مجرد سراب ،لهذا لجأ الانسان إلى توثيق طموحه و فكرة خلوده بهدف توريثها للأجيال لعلهم يحققوها بعد ان يأس هو من تحقيقها ،هل افترض العقل البشري وجود صراع في الحياة فأقحم نفسه فيه أم أنه خلق أصلاً ليكون طرفا للصراع والمكابدة فأُقحم فيه رغما عن انفه ،

اول طرف للصراع هو طموح العقل الذي ليس لديه قناعة ولا حدود إلا بالوصول لتحقيق حلم الخلود او الموت ،

اما الطرف الثاني للصراع فهو الواقع الذي يعيش فيه الإنسان والذي عزف عن التأقلم معه واعتبره حجر عثرة يُعرقل تحقيق حلم البشرية المثالي ،

وسواء كان الإنسان قد اقحم عقله أو أُقحم عنوة في الصراع فقد فرض عليه امراً واقعاً لا مفر منه , وراح يبارز وينازل طرفي الصراع معاً فتارة يدير ظهره للطموح لكن سرعان ما يعود من جديد يخوض معه منازلة ،

العجيب ان مصير ذلك الصراع كان دائما ينتهي بنهاية مأساوية للجميع عند ارتطام الجميع بصخرة الموت ،

فلا العقل قد نال حلم المثالية ولا العقل قد اقتنع بالواقع ولا الانسان تخلى عن طموحه وكف عن الصراع ،

المشكلة الأخرى في الصراع هي الجيل الوارث لملحمة الصراع الأزلي فبالرغم من انهم حضروا صراع الآباء وشهدوا بأعينهم وعقولهم نهاية اطراف الصراع لكنهم أصرّوا على المضي للمشاركة فيه مجددا أملاً بنقل المثالية الى الواقع ،

والمؤسف أنهم لم يحاولوا قط التفكير بالتأقلم مع الواقع وتوجيه الطموح للواقع ،

لقد دأبت الأحزاب العقائدية الى رفع شعار المثالية مُستخدمة خطابات جميلة و وعود طوباوية من اجل الترويج لأفكارها وعقيدتها وسواء كانت فكرتها العقائدية سياسية أم دينية أو اجتماعية فهي جميعها تنهج نفس النهج ،

حيث تقوم العقيدة بتأطير اهدافها بحلم المثالية متجاهلة حقيقة هروبها من الواقع وتُخفي خيبتها وعجزها عن التأقلم مع الواقع .

وكمثال لما سردناه :

*كل الحركات الثورية والأحزاب السياسية أو احزاب الدين السياسي بلا استثناء تطلق شعارات مثالية وتتعهد للمجتمع بان تحقق لهم حياة مثالية وأن تؤسّس لهم نظام حكم إلهي عادل أو نظام سياسي ديمقراطي مثالي وتعدهم بأنها ستقوم ببناء أنظمة ومؤسسات مثالية لكنها تشترط على المجتمع إن يتخلى عن الواقع وأن يبتعد عن حاضره .

و بعد مرور الزمن يكتشف المجتمع الذي بات يعيش تحت سلطة وادارة حكم تلك الاحزاب ذات الشعار المثالي بأن الحزب قد نكث بوعوده وإن هو إلا نظام فاسد همه كرسي الحكم وأن الجهاد ضد الواقع كان مجرد وهم وأن النضال لتحقيق المثالية ما هي إلا سراب وأن المجتمع لازال يقف في نفس الواقع القديم ان لم يكن الاسوأ ،

كل ذلك يحدث لكن بعد فوات الاوان بعد أن تصل مسيرة الجيل الى صخرة الموت ،

تنبري العقيدة لتبرر فشلها وتتهم الواقع باسباب فشلها و عجزها عن تحقيق حلم المثالية ،

وتدعي انها كانت تحارب الواقع لكن المجتمع ركن الى الواقع ولهذا فشلت أفكارها في تحقيق شعارها المثالي،و تحميل الواقع أيضاً مسؤولية عجزها للتأقلم والاندماج معه وتتهمه بالظلم والاستبداد والاضطهاد وأنه تخلى عن فرضية المباديء التي هي ابتدعتها و حسب رؤيتها فهي لا تريد ان تعترف ان النظام السياسي ومؤسساته كانا تحت سلطتها وإدارتها وليس للواقع اي دور في القيادة ،

*ما ان تبدأ لحظة سقوط وانهيار حلم المثالية وانكشاف حقيقة عجز

العقل البشري حتى ينبري جيل جديد يدعي ان لديه تحقيق الأمل و يطالب المجتمع بالعودة إلى نقطة الانطلاق مجددا لبدء مسيرة زمنية جديدة وفق عقيدة جديدة تقود المجتمع لاجراء محاولة فاشلة اخرى،

ومن جديد يبدأ التهليل و التهريج والتصفيق والهتافات الفضفاضة من اجل تشجيع المجتمع للبدء في مسيرة جديدة تحت سلطة العقيدة الجديدة كي تقودهم لسراب المثالية ،

ويبدأ المحللون السياسيون والمؤرخون بالصراع في الإعلام فئة تسرد وتحلل مسيرة الفشل لتلك العقيدة وفئة اخرى تبرر اسباب الفشل وتسلط الضوء على الواقع كونه فاسد وهو السبب في تحطيم حلم المثالية بالرغم من ان الطرفين والمجتمع يدركون ان صخرة الموت هي التي كتبت النهاية .

الخاتمة :
لقد استغل الحاكم طاعة المحكومين له فصنع لهم من رؤيته واقعا لحياتهم لكن الحاكم كان يعيش في واقع غير واقعهم ،

ثارت العقيدة على الحاكم ورفعت شعار مثالية والعدالة بين الحاكم والمحكوم وطالبت المجتمع بالتخلي عن الواقع الذي صنعه الحاكم لهم ,

لكن ما ان اعتلت العقيدة عرش السلطة حتى ارتدت نفس ثوب الحاكم وصنعت للمحكومين نفس الواقع القديم بعد ان بدلت ثيابه ثم عاد الزمن كالعرجون القديم ليعلن أوان وقت الرحيل لتبرز العقيدة مرة جديد وهي ترتدي بدلة غير ثوبها تطالب المحكومين بالعودة من جديد إلى البداية.

المصادر:
رؤية الكاتب عن صراع الإنسان مع الطموح والواقع من اجل الفوز بحلم المثالية ،

لا يشترط للكاتب ان يكون ناقل سردي لأفكار غيره لان الكُتاّب لا يستوجب منهم وجود مصدر عن رؤيتهم وجدلهم الفكري .

—————————

المملكة المتحدة/ السابع والعشرين من كانون الاول 2025

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

904 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع