
صبيح صادق
الدكتور نوري جعفر(١٩١٤ـ١٩٩٢) العصامي الذي حُرِم من كلية الطب لعدم قدرته المالية

في الثلاثينيات من القرن الماضي، حصل الطالب نوري جعفر على معدل 94، الفرع العلمي. كان يأمل أن يدرس الطب، فذهب الى بغداد، وفي المقابلة سأله عميد كلية الطب الانكليزي سندرسن باشا:
ـ هل باستطاعتك ان تصرف كل شهر مبلغ خمسة دنانير على دراستك؟
فأجابه الطالب نوري جعفر:
ـ لا أنا، ولا أبي شاهدنا الـخمسة دنانير هذه!
فرفض عميد الكلية قبوله، وحوّل أوراقه إلى كلية التربية.
ومنذ ذلك الوقت اختص نوري جعفر بعلم التربية الذي برع فيه طوال حياته حتى وفاته عام 1992.
××××××
ولد الدكتور نوري جعفر عام 1914 بمدينة القرنية بالبصرة، وفي سنة 1920، اصطحب الوالد ابنه نوري إلى المدرسة لتسجيله فيها، وحسب كلام نوري جعفر في برنامج الكاتبة المرحومة ابتسام عبد الله، وكذلك حسب ما نشر في موقعه على الانترنيت الذي أنشأته ابنته "نجود" بمساعدة الكاتب رشيد الخيون: قوله "أخذني والدي الى المدرسة، واعطتني والدتي القرآن، ودخلنا الى المدرسة لمقابلة مدير المدرسة الطيب الذكر الاستاذ ياسين الملا حويش، قال والدي:
ـ هذا ابني اريد ان اسجله، وهو يقرأ القران.
طلب المدير أن أقرأ. ارتجفتُ بشكل لا يطاق، بحيث وقع القران من يدي، تناولتـُه، قبـّلتـُه وفتحتـُه، لا على التعيين …ولم انظر اليه، وانما كنتُ ارتجف،، وبدأتُ أقرأ الآيات التي حفظتها بشكل مذهل: "الحمد لله"، "تبـّت يدا"…الخ.
انتبه المدير، قال:
ـ تعال بقربي.
نظرَ فوجدني امسكتُ القرآن بالمقلوب.. مع هذا شجعني، وقال لي:
ـ ابني انت.. وسأسجلك في الصف الثاني".
تعلـّق الطفل نوري جعفر بتلك المدرسة تعلقا كبيرا، وأحب دروسها، يقول:.
"أحببت المدرسة بشكل لا يوصف، وكان اهتمامي الكبير بدرس الرياضيات واللغة العربية، وبالتاريخ. وكنت اتضايق من الرسم، والاعمال اليدوية، واتضايق ايضا – أكره وليس اتضايق ـ من الجغرافية، كانت درجاتي في الرياضيات ممتازة وكذلك في التاريخ واللغة العربية".
لم يُقبل في كلية الطب
ومن ذكريات الدكتور مدني صالح: "إن الطالب نوري جعفر "كان يأمل أن يُكمل دراسته في كلية الطب، ولأنه من عائلة فقيرة، لم يتسن له القبول في كلية الطب التي كان يحلم بالدراسة فيها، فذهب إلى بغداد قادماً من البصرة على مركب نهري بعد أن قبل صاحب المركب أن يقلّه مجاناً، فلم تكن عنده آنذاك أجرة النقل إلى بغداد. . .
"حمل شهادة البكالوريا وأوراقه، جاء الى العاصمة بغداد ليصدم بامتحان المقابلة التي تجريها كلية الطب بعميدها الانكليزي سندرسن باشا الذي سأله بعدما رآه بزيه الريفي: هل بمستطاعه ان يصرف كل شهر مبلغ (5) دنانير على دراسته. فاجابه بطيبة الفلاح الجنوبي الفقير:
ـ لا انا ولا ابي شاهدنا الـ(5) دنانير هذه!
فرفض الانكليزي سندرسن باشا قبوله في كلية الطب، رغم ان معدله 94% الفرع العلمي مما دعاه الى تحويل اوراقه الى دار المعلمين العالية".
لكن عميد الكلية سندرسن طلب من أحد العاملين اصطحاب الطالب نوري جعفر ليشتري له ملا بس جديدة، ويصاحبه إلى أحد المطاعم، وسلمه توصية للدكتور متي عقراوي عميد دار المعلمين العالية. حسب ما يروي الدكتور مدني صالح فإن الطعام الذي تناوله في ذلك المطعم كان (تاريخ أول شبعة وأول جواريب" يعلق الدكتور مدني صالح: (خسرت كلية الطب عالماً وكسبته دار المعلمين العالية)".
في دار المعلمين العالية
الدكتور نوري جعفر يتذكر أول دخول له إلى دار المعلمين العالية (كلية التربية)، يقول:
ذهبت الى الكلية (دار المعلمين العالية) وكانت درجاتي عالية، سألت الفراش بالباب، وكانت الكلية في باب المعظم.. قلت له: اريد ان ارى العميد.
ـ في الطابق الثالث.
قال له العميد الدكتور متي عقراوي:
ـ ماذا تريد؟
ـ سيدي جئت أقدم اوراقي الى الكلية.
ـ ما اسمك؟
ـ اسمي نوري جعفر.
ـ انتهى القبول. واخذنا الملفات الى الوزارة، وليس هناك مجال.
عندما نظر العميد الى درجات نوري جعفر غيّر رأيه، وقبله في الكلية. يعلق نوري جعفر " قبلني الرجل، ورعاني رعاية كبيرة، تخرجت في الكلية، وكنت الأول، وكنا اول دورة".
حصل نوري جعفر على بعثة دراسية بالولايات المتحدة، بموضوع التربية وعلم النفس، وفلسفة (جون ديوي) التربوية، وتطبيقاتها في العراق. يقول الأستاذ علي حسين القيسي: "كان من اساتذته هناك الفيلسوف الامريكي جون ديوي ابو البراغماتية والمنظر الكبير للديمقراطية الامريكية الذي أعجب بذكاء الطالب العراقي ونباهته وتنبأ له بمستقبل زاهر". وكان جون ديوي يحترم لدرجة كبيرة نوري جعفر وبادله جعفر الشعور نفسه، ولهما مراسلات كثيرة. وقد ذكر الدكتور حميد الخاقاني أنه بسبب تنقلات نوري جعفر الكثيرة، ضاعت أكثر تلك الرسائل، ولم تبق غير رسالتين فقط.
تزوج نوري جعفر من السيدة فاضلة التي توفيت في حياته، ولهما من الأبناء علياء وخلود ونجود وعلي.
أستاذ في كلية التربية
عمل نوري جعفر أستاذا بكلية التربية، جامعة بغداد، عام 1950، وفي عام 1954، اعترض على تزوير انتخابات البرلمان في القرنة، ودخل في مناقشات مع رئيس الوزراء أرشد العمري، انتهت بفصله من وظيفته، فالتحق للعمل بالمدرسة الجعفرية، ثم انتقل للعمل أستاذا في جامعة بغداد عام 1956، ثم مديرا عاما في وزارة التخطيط.
الفصل من الوظيفة والهجرة
وفي عام 1963 صدر أمر بفصل الدكتور نوري جعفر، ضمن قائمة المفصولين من الأساتذة الجامعيين، بعد استلاء حزب البعث على السلطة في العراق. يقول الأستاذ ثامر كلاز إن رقم نوري جعفر في قائمة الفصل التي شملت حوالي مائة أستاذ جامعي، احتل رقم 4، وقبله ثلاثة أسماء الدكتور مهدي المخزومي ثم الدكتور علي جواد الطاهر ثم الدكتور عبد الجبار عبد الله عميد جامعة بغداد.
بقي الدكتور جعفر دون عمل حتى عام 1964، ثم غادر العراق إلى المملكة العربية السعودية ليتعين رئيسا لقسم علم النفس في جامعة الملك سعود، يقول الأستاذ عبد الله المدني: " وخلال عمله في السعودية تعرض لمحنة الوشاية به لدى وزارة المعارف السعودية من قبل أكاديميين من مواطنيه العراقيين ... لكن الوزارة ممثلة بوزيرها آنذاك الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ الذي كان على صلة وثيقة بمليكه الفيصل وينقل إلى جلالته ما يدور في وزارته، تلقى أمرًا من الفيصل بعدم الالتفات إلى وشاية الواشين. وانتهى الأمر باستقبال الفيصل للدكتور نوري جعفر كي يوصل له رسالة مفادها أن السعودية لا تفرط بالقامات العلمية المفيدة لأسباب عقائدية. وردًا على موقف الفيصل هذا، واعتزازًا ومحبة للسعودية ووزير معارفها النجدي الذي وقف معه في محنته، أطلق الرجل اسم «نجود» على ابنته، ثم أطلق اسم فيصل على حفيده الأول".
وفي عام 1965 انتقل نوري جعفر للتدريس في كلية الآداب جامعة بنغازي، وظل يتنقل بين الجامعات العربية والأجنبية، بالمغرب، وبريطانيا والعراق، والكويت وكندا، وأمريكا، وأخيرا حل في ليبيا، وفيها توفي عام 1992.
وفاته
وقد شاع بين الناس بأن سائق تكسي قد اغتاله طمعا في الحصول على ما في حقيبته، لكن عائلته نفت هذا الخبر، على لسان ابن أخيه الوحيد الدكتور عبد الكريم راضي جعفر الذي أكد بأن عمه توفي بسبب "مضاعفات زكام حاد"، وأكدت ذلك ابنته "نجود" التي قالت: "كان مصابا بالزكمة الحادة في تلك الفترة وكنا معه (انا وأختي الوسطى واخي)، حالته الصحية كانت تسوء. لاحظت أختي توقف تنفسه. عمّ السكون المكان فقد رحل عنا".
نشاطه في التأليف
نشر الدكتور نوري جعفر أكثر من ثلاثين كتابا، وعدد كبير من المقالات والكتب، وكان من جملة نتائج بحوثه حسب ما ذكر الأستاذ نجاح هادي كبة: "أن بمقدور الطفل او الشاب او الكبير ان يكون مبدعا، وان دماغ الانسان السوي فيه من الاصالة والمرونة والطلاقة ما يوصله للإبداع، بشرط ان يتعامل مع المحيط الاجتماعي بشكل سليم .. وفي ضوء ذلك قرر أن يكون للمعلم دور لا في توصيل المادة الى اذهان الطلبة فقط بل دعا الى تطويره لمساعدتهم على التفكير ولتوصيلهم الى توليد الافكار الجديدة بالاستعانة بتكنلوجيا التعليم وطرائق التدريس الحديثة التي تنمي لديهم الاستعداد على التفكير والتحليل وتشجعهم على الابداع، فطالب بدخول التلفزيون والفيدو ووسائل التعليم الاخرى داخل الصف لتوصيل المادة".
وقد بذلت "نجود"، ابنه الدكتور جعفر جهودا محمودة في جمع تراث والدها ووضعه في خدمة القراء والباحثين، فسهلت بذلك الوصول الى كتب ومقالات الدكتور جعفر بسهولة من خلال الانترنيت، وقد نبّه الأستاذ رشيد الخيون الى ذلك حيث ذكر أن نجود قامت "بإعادة نشر مؤلفات والدها، العظيمة كما ونوعا، بعد صد الناشرين عنها، وكانت علوما وأفكارا أصيله. بعدها وجدت طريقا، لفتح مكتبة والدها للباحثين والقارئين، فأنشأت "مكتبة نوري جعفر الضوئية".
يقول الدكتور نجم حيدر، وكان الطالب الوحيد الذي درس الدكتوراه على يد نوري جعفر "لو كان نوري جعفر إنكليزي أو أمريكي أو مصري لكان اليوم من الأسماء الكبيرة التي تـُدرَس في تاريخ الفلسفة ". وذكر الدكتور جمال العتابي ان نوري جعفر هو من جملة الرواد العراقيين المبدعين الذين حاولوا التنوير والتحديث في العراق في القرن الماضي.
إن أبرز ما يلفت النظر هو أن اهتمامات الدكتور نوري جعفر متنوعة لحد كبير، فهو يكتب في التربية والعلوم والفلسفة والتاريخ واللغة والأدب والسياسة وغيرها من المواضيع. من كتبه: الحب بين القلب والدماغ، الفكر وطبيعته وتطوره، اللغة والفكر، طبيعة الانسان في ضوء فسلجة بافلوف، الاصالة في شعر المتنبي، الإمام علي ومناوئوه، التاريخ مجاله وفلسفته، صالح جبر وكفاءاته وظروفه السياسية، جون ديوي حياته وفلسفته.
ومع كل التضحيات التي قام بها الدكتور جعفر في سبيل التربية والتعليم، والنشاط الكبير في التدريس وفي التأليف والابداع، فإن الاهتمام به لا يزال ضعيفا كما هو الحال مع الكثير من أعلام العراق المبدعين.

1185 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع