هكذا يتصرف الكبار

خلف الحيالي

هكذا يتصرف الكبار

وصلتني هذا اليوم من احد الاصدقاء المقربين الى قلبي هذه الرسالة الجميلة تحمل كلمات تكاد تراها تلمع كالذهب البراق وكانت كالتالي:

كتب سلام نجل شاعر العراق الكبير (عبد الرزاق عبد الواحد) .. في أحد أيام عام 2009، تلقيت مكالمة من الوالد.

لم يكن في صوته ما يوحي بأن الأمر مختلف… لكنه قال لي بهدوءٍ موجز: أرسل لي نسخة من هويتك… والعنوان الكامل

فسألته: ليش؟ فأجاب: قدّمت على تأشيرة… أريد أن أزوركم.

كان الأمر أشبه بالمستحيل.

رجلٌ بقامته، بتاريخه، بمواقفه الصارخة… يطرق باب السفارة الأمريكية؟

لم يخطر ببالي أنه سيحصل على موعد، ولا حتى مجرّد اهتمام. لكن بعد أيام، حدث ما لم نتوقعه.

اتصلتْ السفارة به وقالت: القنصل يريد مقابلتك شخصيًا.

ذهب الوالد في اليوم التالي، وهو ممتعض، ليس لأنه يريد التأشيرة، بل لأنه اضطر للمرور بهذه الإجراءات كلها فقط ليزور أولاده وأحفاده. فلطالما كان السفر بالنسبة له رحلة نحو الإنسان، وليس نحو الدول. لكن المفاجأة كانت داخل السفارة. حين دخل، استقبله القنصل بحفاوة غير متوقعة. شاب يتحدث العربية بطلاقة، وكأنه عربي. ابتسم وقال له: أستاذ عبدالرزاق… أنا أعرفك جيدًا. قرأت الكثير من شعرك. لكن عندي سؤال: أنت مقرّب جدًا من النظام السابق… فلماذا تريد السفر إلى الولايات المتحدة؟

لم يتردد الوالد لحظة. أجابه بنبرة لا ترتجف: نعم… صحيح. وزيارتي إلى بلدكم ليست سياحة. أريد أن أرى أولادي وأحفادي… لا غير. أما أمريكا… فقد كانت سببًا في دمار حضارة كاملة.

ارتبك القنصل قليلاً، ثم قال: لكن… أنت كتبت كثيرًا لصدام حسين.

فقال الوالد بكل صراحة: نعم… وما زلت أكتب له.

سكت القنصل لحظة… ثم قال: أمّا فكرت أن تكتب شيئًا للرئيس بوش؟

ابتسم عبدالرزاق عبدالواحد ابتسامة صغيرة لا يعرفها إلا من شاهد جرأته عن قرب، وقال: بلى… كتبت له قصيدة قصيرة.

قال القنصل بسرعة: هل يمكن أن أسمعها؟

وهنا…

أعاد والدي ظهره إلى الخلف قليلًا، كأنه يستعد لإطلاق سهْم شعري لا يخطئ. ثم قال بصوته المهيب:

رسالة إلى الرئيس بوش

بالطينِ والحجارةِ

نحن بدأنا سُلّم الحضارة

حتى استقام فوقَه الإنسانْ

دورُكَ جاءَ الآنْ…

لكي تُعيدَ صرحَها

للطين والحجارة…!

ساد صمت لثوانٍ. لم يكن القنصل يعلم، أكان عليه أن يبتسم؟ يندهش؟ أم يتلقى السهم كما هو؟

ثم قال أخيرًا: لصراحتك… واحترامًا لكونك أنت… سأمنحك تأشيرة دخول مفتوحة لمدة عام كامل.

خرج الوالد من السفارة،

وكانت في نبرة صوته لأول مرة شيئاً يشبه الانتصار الهادئ، ذلك الانتصار الذي لا يحتاج ضجيجًا… يكفيه أن يكون كلمة صادقة في وجه عالمٍ كامل. والطريف،

أن هذه القصة تأتي في ذكرى 14 ديسمبر 2008،

يوم رُمي الرئيس بوش بالحذاء في بغداد.

وكأن القصيدة التي قالها الوالد…

كانت صفعةً اخرى

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

945 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع