
الدكتور رعد البيدر - الشارقة
مَكْثُ الجَوَاهِرِ وزَبَدُ المَظَاهِرِ
المَكْثُ يعني ظاهرة البقاء والثبات، والزَبَدُ يعني الرَّغْوَة التي تَطْفُو على سطح الماء وتَزُول سريعاً.
على صفحات الشبكات الاجتماعية، تلوح صورة مؤلِمَة ومُلهمِة في آن واحد، رجال وشباب يقفون عند مَفَترِقِات الطرقات، يجمعون النقود من نوافذ السياراتِ العابرة، سعياً لاستكمال كُلفَة عملية جراحية لمواطن أَنهكه الفَقْر والعَجز الحكومي عن توفير العلاج اللازم. تلك المشاهد، وإن كانت تُمثِّلُ أروع صُوَر التكاتف والرحمة، لكنها في المقابل َتصرخُ بعَجز منظومة رسمية عن إِدراك أبسط حقوق المواطن من حكومته. التناقض بهذه الكيفية يضع قِيمَة الإنسان في ميزان غير مادي، حيث يَرتَفِعُ شَأْنُ صاحب المَبدَأ ويَسقطُ اعتِبَار صَاحِبِ السُّلطة. ليتضح أنَّ القِيمَةَ لا تولَّد من كرسي الحُكمِ أو من ارصدة الأموال، بل تَنبَعُ من جذورِ المَبادِئ الرَّاسِخِة في الضمير الحَيّ الذي لا يُبالي بالمظاهر البَرَّاقة بقَدَر اهتِمامهِ بما يَنفَعُ الناسَ.
النظرة المُتعّمِقَة لمسيرة السلوك الإنساني عبر التاريخ تُخبِرُنا بأنَّ محاولات ربط قيمة الإنسان بالمال أو بالمَنصِب مَصِيرُها الفَشَلُ والزَّوَال، فالمال وسيلة يمكن أن تَتَبَدَّلَ مِلكِيَّتُها، والمَنصِب سُلطة تُمنَحُ وتُسلَبُ بِقَراراتٍ ومَرَاسيمَ، أمَّا المَبدَأ فهو حقيقةُ غيرُ قابلةِ لِلزوَالِ، تُشَكِّلُ جَوهَرَ الوجود الإنساني، إِنَّهُ الصدقُ والوَفَاءُ والنَّزاهةُ، والارتباط الوثيق بين الجَوهَرِ النَّقِي والمعنى الأَصِيلِ. ويبقى المبدأ يمثل خُلاصَةُ التجارب التاريخية التي تعني أنَّه المِعيارُ الأَوحَدُ الذي لا يَتبدل ولا يَبلَى.
بهذا المَسَارِ، يَظْهَرُ جَلِيّاً أنَّ القِيمَةَ الحقيقية للإنسان لا تَكمُنُ في الألقاب التي يَحمِلُها أو الثروات التي يَمتَلِكُها، بل في الثبات على الأخلاق والمَبَادِئِ التي يؤمِنُ بها، فالسُّلطة والمال وسائل مؤقتة وزائلة حتماً، بينما الشعور الذي يَترُكُهُ المَبدَئِي في قلوب الناس وعقولهم هو الأَثَرُ الخالد. وليتذكر من ينسى أن التاريخ لم ولن يُسَجِّلُ انتِصاراً للغني الجائر مثلما يُسَجِّلُ مَجداً للفقير الذي أَضاءَ دروب الحياة بِمَوقِفِهِ الشريف. الربط بين الثبات الأخلاقي والتقدير الاجتماعي يُذَكِّرُنا بما أَمَرَ به الله في الآية - 17 من سورة الرعد بقوله:
" فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"
ختاماً، المظاهر زائلة كالزَّبَد لا قرارَ لها، أما الحقيقة الجَوهَرِيَّة التي تَبقَى مَحفورَة في وِجدانِ البشرية، أنَّ الحُب والتقدِيرَ لا يُشتَرَيانِ بأَغلَى الأَثمَانِ، ولا يُمنَحَانِ بأَرفَعِ المَنَاصِبِ، بل هما نَتَاجٌ طبيعي للجَوهَرِ الصادِقِ الذي لا يَتَلَوَّنُ ولا يَتَبَدَّلُ. إِنَّ المقاييس التي تَتَغَيَّرُ بالمال والمَنْصِب لا تَصمُدُ أَمَامَ اختبار الزمن، بينما المَبَادِئُ الراسِخَةُ هي التي تَمنَحُ الإنسان وَزناً حقيقياً لا يَزولُ بِزَوَالِ الحظوظ. و" يا " أولي الأَلْبَابِ، اعلموا أن ياء النداء لا توَجَّهُ إلا للبَعِيدِينَ عن نَبضِ الشَّعبِ؛ لذا كُونُوا بِمُستَوَى المَسؤولِيَّةِ والأَمَانَةِ المُكَلَّفِينَ بها ديناً ودُنيا، ولا يَغرُب عن بالكم قول الشاعر عبد الرحمن العشماوي:
قَدْ يَعْشَقُ الْمَرْءُ مِنْ لَا مَالَ فِي يَدِهِ
وَيَكْرَهُ الْقَلْبُ مَنْ فِي كَفِّهِ الذَّهَبُ
مَا قِيمَةُ النَّاسِ إِلَّا فِي مَبَادِئِهِمْ
لَا الْمَالُ يَبْقَى وَلَا الْأَلْقَابُ وَالرُّتَبُ

963 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع