برهم أحمد صالح والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين: تحوّل في القيادة الأممية وسياق دولي متغيّر

أ.د. أنور أبوبكر كريم الجاف
باحث أكاديمي

برهم أحمد صالح والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين: تحوّل في القيادة الأممية وسياق دولي متغيّر

في لحظة دولية تتقاطع فيها الاعتبارات الإنسانية مع تحوّلات سياسية ومالية عميقة تعيد تشكيل بنية النظام الدولي، برز خبر ترشيح الدكتور برهم أحمد صالح لتولّي منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بوصفه حدثًا تتجاوز دلالاته حدود التغيير الإداري في قيادة وكالة أممية، ليغدو مؤشرًا على تحوّل أوسع في مقاربة القيادة داخل منظومة العمل الإنساني الدولي. فقد أظهرت مراسلات رسمية أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أوصى بتعيين صالح لولاية مدتها خمس سنوات تبدأ في الأول من كانون الثاني/يناير 2026، خلفًا للمفوض الحالي فيليبو غراندي الذي تنتهي ولايته في الحادي والثلاثين من كانون الأول/ديسمبر 2025، على أن يستكمل هذا الترشيح مساره الإجرائي وفق الأطر المؤسسية المعتمدة داخل المفوضية والهيئات المختصة في منظومة الأمم المتحدة.

وتستمدّ هذه الخطوة ثقلها التحليلي من تداخل ثلاثة مستويات متمايزة، يشكّل أولها العرف المؤسسي الحاكم لآليات الاختيار داخل منظومة العمل الإنساني الدولي. فعلى امتداد عقود طويلة، استقرّ نمط غير مكتوب في بنية المفوضية السامية لشؤون اللاجئين يقوم على إسناد منصب المفوض السامي إلى شخصيات قادمة من الدول المانحة الكبرى، ولا سيما الأوروبية منها، لا بوصف ذلك خيارًا إداريًا محضًا، بل باعتباره انعكاسًا لتوازنات التمويل، وأنماط الحوكمة، وعلاقات التأثير داخل النظام الإنساني العالمي. ومن ثمّ، فإن الخروج عن هذا العرف لا يمثّل مجرد تغيير في الاسم أو الجغرافيا، بل يشير إلى تحوّل في الفهم المؤسسي ذاته لمصادر الشرعية القيادية داخل الوكالة، وإلى مراجعة ضمنية لمعادلة ظلّت تربط القيادة الإنسانية بقدرة التمويل أكثر مما تربطها بعمق الخبرة في جغرافيا الأزمات.

وفي هذا السياق، يأتي ترشيح شخصية من خارج الإطار التقليدي ليعكس قراءة دبلوماسية جديدة مفادها أن الأمم المتحدة، في مرحلة الضغوط المتزايدة على وكالاتها الإنسانية، لم تعد قادرة على الاكتفاء بجغرافيا التمويل معيارًا وحيدًا للاختيار، بل باتت تميل إلى توسيع نطاق التمثيل القيادي بما يعكس جغرافيا الأزمات ذاتها، وإلى إدخال خبرات سياسية وحكومية قادمة من مناطق كانت تاريخيًا في قلب موجات النزوح واللجوء، لا على هامشها. وهو تحوّل يحمل في طياته إعادة تعريف للعلاقة بين المركز الإنساني التقليدي والأطراف المتأثرة بالنزوح، بما يمنح هذه الأطراف دورًا أوسع في صياغة الاستجابة الدولية بدل الاكتفاء بدور المتلقي.

أما المستوى الثاني فيتصل مباشرة بالظرف العالمي الاستثنائي الذي تمر به المفوضية السامية لشؤون اللاجئين اليوم. فالوكالة تواجه ارتفاعًا غير مسبوق في أعداد النازحين واللاجئين، بالتزامن مع تراجع ملموس في التمويل الإنساني واتساع الفجوة بين الاحتياجات الفعلية والموارد المتاحة، في سياق عالمي يشهد تحوّل أولويات عدد من الدول المانحة نحو الإنفاق الدفاعي وإعادة ترتيب التزاماتها الخارجية. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد البحث عن قيادة قادرة على مخاطبة الحكومات والبرلمانات والرأي العام العالمي، وبناء شراكات مبتكرة مع أطراف غير تقليدية، خيارًا تحسينيًا في الأداء المؤسسي، بل ضرورة تشغيلية تمس جوهر استدامة العمل الإنساني ذاته.

ويأتي المستوى الثالث ليُبرز أهلية برهم أحمد صالح بوصفها أهلية مركّبة لا تختزل في تقلّد منصب رفيع سابق، بل تقوم على اجتماع الخبرة الحكومية التنفيذية، والقدرة التفاوضية، والفهم العميق لمنطق الدولة ومؤسساتها، مع خلفية أكاديمية وتكنوقراطية تُعين على إدارة واحد من أعقد الملفات الإنسانية والسياسية في العالم المعاصر. فقد شغل صالح رئاسة جمهورية العراق بين عامي 2018 و2022، وتولّى قبل ذلك مناصب اتحادية وإقليمية رفيعة، وهي خبرات تتصل مباشرة بقضايا الحوكمة العامة، وإدارة الموارد، وصياغة السياسات العامة، وإدارة الأزمات المركّبة، وهي مفردات لا تنفصل عن طبيعة عمل المفوضية في البيئات الهشّة، حيث تتقاطع الحماية القانونية للاجئين مع الضرورات المعيشية، ومع اعتبارات السيادة الوطنية والأمن والاستقرار الاجتماعي.

غير أن ما يضفي على هذا المسار بعده القيمي الأعمق هو أن هذه الخبرة لم تتشكّل في فراغ إداري محض، بل في سياق اجتماعي وحقوقي مبكر. فقد نشأ صالح في بيئة قانونية وحقوقية معروفة في السليمانية، وكان والده قاضيًا بارزًا، فيما عُرفت والدته بنشاطها الاجتماعي ودفاعها عن حقوق الإنسان، ولا سيما حقوق المرأة. ومن شأن هذا التكوين أن يفسّر، دون حاجة إلى التصريح، حضور البعد الحقوقي والإنساني في مساره العام، لا بوصفه خطابًا شعاريًا، بل بوصفه إطارًا قيميًا ملازمًا لفهم الدولة ووظيفتها وحدود سلطتها.

ومن زاوية القانون الدولي للاجئين وحوكمة العمل الإنساني، لا يمكن قراءة هذا الترشيح بمعزل عن التحوّل الجاري في مفهوم تقاسم الأعباء والمسؤوليات. فاللجوء لم يعد ملفًا إنسانيًا خالصًا يُدار بمنطق الإغاثة الطارئة وحده، بل بات يمس الأمن الإنساني، وسلامة الحدود، والتوازنات الاجتماعية، وصعود الخطابات الشعبوية في أكثر من إقليم. وفي هذا الإطار، فإن إسناد المنصب إلى شخصية قادمة من منطقة خبرت اللجوء بوصفه تجربة جمعية وتحديًا تنمويًا طويل الأمد قد يسهم في إعادة توجيه النقاش الدولي نحو مقاربة أكثر توازنًا بين الاحتياجات الإنسانية المشروعة للدول المستضيفة وبين مقتضيات الحماية الدولية للاجئين، بما يحفظ مبدأ عدم الإعادة القسرية، ويعزّز حلولًا مستدامة تتجاوز إدارة الطوارئ إلى تمكين اللاجئين من التعليم والعمل وبناء سبل العيش حيثما أمكن.

وفي الوقت نفسه، يظلّ الاتساق مع مقاصد الأمم المتحدة شرطًا جوهريًا لأي قراءة تحليلية رصينة. فالمنصب ليس امتدادًا لمسار سياسي وطني، ولا منصة لإعادة إنتاج خطاب الدولة، بل وظيفة أممية محكومة بميثاق المنظمة، وبشبكة دقيقة من الالتزامات القانونية والمعيارية، وبمبدأ الحياد وعدم التسييس في تقديم العون الإنساني. ومن هنا، فإن القيمة المضافة المتوقعة من هذا الترشيح، إذا ما اكتملت مسارات اعتماده المؤسسي، تكمن في القدرة على الجمع بين شرعية الخبرة السياسية وفن بناء التوافقات من جهة، وبين الالتزام الصارم بمعايير الحماية والمساءلة والشفافية من جهة أخرى، بما يعيد الثقة في قدرة النظام الإنساني الدولي على التكيّف مع التحولات العميقة دون التفريط بأسسه الأخلاقية والقانونية.

وفي المحصلة، فإن اختيار برهم أحمد صالح، إن أُقِرّ نهائيًا عبر القنوات المعتمدة، يمكن قراءته بوصفه محاولة لإعادة موضعة قيادة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بما يستجيب لتغيّر طبيعة الأزمة العالمية ذاتها: أزمة نزوح واسعة النطاق، محدودة التمويل، عالية التسييس، تتطلّب عقلًا إداريًا تفاوضيًا قادرًا على حماية الفئات الأضعف، وفي الوقت نفسه إقناع الفاعلين الدوليين بأن الاستثمار في الحماية والاندماج والحلول الدائمة ليس عبئًا أخلاقيًا فحسب، بل أحد الشروط البنيوية للاستقرار الدولي في عالم مضطرب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1119 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع